22 مايو 2022م
المصدر: رأي اليوم
ودّعت جامعة عدن ومدينة عدن واليمن عموماً الشخصية الأكاديمية السياسية الاستثنائية البروفيسور/ عبدالله محسن طالب بن سريع باسرده، ودّعته وهي حزينة بسبب الفراق الأبدي وهذا أمر الله سبحانه وتعالى، وسنّة الحياة في الأرض، والسبب الثاني أنها خسرته وهو في أوج عطائه الفكري والعلمي والسياسي، لأنه لازال في ربيع العمر ومرحلة الإنتاج الفكري الثري.
تعرفت على الصديق العزيز/ باسرده منذ السبعينات من القرن العشرين، إذ تربطنا ببعض علاقات أخوة وصداقة وجيره، فأسرته وقبيلته/ آل باسرده تربطنا بهم علاقات أسرية وثيقة منذ القدم، أي مُنذ أجيالٍ عديدة بحكم الجيرة التضاريسية وتلاقي وانسجام أهلنا على مدى عقودٍ من الزمان.
لكنني تعرفت عليه عن قُرب مُنذ أن قرر الالتحاق بالدراسة الجامعية في كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة عدن، وكان ذلك في العام 1978م في ضاحية كريتر في مدينة عدن حيث موقع الكُلية القديم، واقتربنا كثيراً في مراحل الدراسة والعمل النقابي الطلابي والسياسي عبر انتظامنا في حزبٍ واحد هو الحزب الاشتراكي اليمني آنذاك.
امتلك البروفيسور/ عبدالله باسرده، قدراتٍ سياسية وقيادية استثنائية، بدأها بنشاطه الدؤوب والمثابر في الحركة الطلابية في المراحل الدراسية التي مر بها مُنذ أن كان طالباً في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وتألق كثيراً في المرحلة الجامعية، فمُنذ أن انتخب عضوا في اللجنة المركزية لاتحاد الشباب اليمني الديمقراطي (اشيد)، وأنتُخب في إحدى مؤتمراتها العامة ليكون رئيساً لمجلس طلاب جامعة عدن في العام 1979م، فمنذ تلك اللحظات أظهر قدرات قيادية متميزة وفاعلة ومُؤثرة، ويتذكر زملاء الدراسة الجامعية تحديداً ومن بقي منهم على قيد الحياة نشاط وحيوية زميلنا العزيز البروفيسور/ عبدالله بن محسن.
استمر بعد التخرج من الجامعة عضواً فاعلاً ممثلًا لمجلس طلاب الجامعة في الهيئات القيادية الأكاديمية لجامعة عدن وهي المكتب التنفيذي للجامعة، ومجلس جامعة عدن، وكان حضوره مُميزاً وفاعلاً في اجتماعاته وأنشطته المتعددة.
وفي خضم الصراع الحزبي والسياسي وحتى المناطقي الذي دار بين أجنحة الحزب الاشتراكي اليمني في منتصف ثمانينات القرن العشرين، كان الفقيد المرحوم مِمن ارتبطوا بالجناح الذي قرر المغادرة إلى صنعاء الحضن الدافئ لجميع اليمنيين، ولكنه الحاضن لمن شعر بالغَبن والهزيمة في عدن يوم ذاك، وقرر التنفس بحرية في عاصمة اليمن العظيم، ولم يكونوا في دفعته من المناضلين الأحرار الرافضين لجور الرفاق هم الأوائل، بل سبقهم الوصول إلى صنعاء افواجٌ متعددة من ضحايا الصراع السياسي في جنوب اليمن، بدأها بالرحيل من عدن مناضلين كباراً هربوا من جور ظلمٍ المستعمر المُحتل البريطاني، ونتذكر منهم الرئيس/ قحطان محمد الشعبي، والشهيد/ فيصل عبداللطيف الشعبي، والمناضل المفكر/ عبدالله عبدالرزاق باذيب، والشيخ/ فريد بن أبوبكر بن فريد العولقي/ والشيخ/ الصريمة العولقي، والشاعر الكبير/ محمد سعيد جراده، والشهيد/ علي أحمد ناصر عنتر، والرفيق/ صالح مصلح قاسم، والرئيس/ سالم ربيع علي (سالمين)، والرفيق/ علي صالح عُبَّاد (مُقبل)، والرفيق/ عوض الحامد العولقي، والرفيق/ جاعم صالح اليافعي، وجميع هؤلاء المناضلين قد حجوا مراتٍ عِدّة إلى مدن الشمال اليمني كصنعاء وتعز والبيضاء ومأرب والحديدة.
وحينما احتدم الصراع العسكري بين رفاق السلاح في الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وجبهة التحرير لتحرير جنوب اليمن المُحتل من المُحتل البريطاني، غادر الجناح المهزوم في ذلك الصراع الدموي، وكان في طليعتهم القائد/ عبدالقوي مكاوي، وعبدالله الأصنج، ومحمد سالم باسندوه، وآخرين من قادة جبهة التحرير، وبعدها تقاطر اليمانيون من جنوب اليمن إلى صنعاء، وبالذات من حلَّ بهم ضيم وعسف وجور الأخوة الأعداء في عدن، وما أكثره من قهرٍ وظلم واستبداد (الرفاق)، لينتقلوا جماعات وأفرادا من عدن ليجدوا الأمن والأمان في أحضان مدينة صنعاء وبقية مدن الشمال التي احتضنت كوكبة من قادة الجنوب اليمني (المهاجرين)، أبرزهم المناضل الفقيد/ محمد علي هيثم رئيس وزراء جنوب اليمن، والرئيس/ علي ناصر محمد، والرئيس/ عبدربه منصور هادي، والمناضلين الأبطال أبرزهم اللواء/ أحمد علي محسن لحول، وعبدالله سالم الكحيلي، وعلي محمد القفيش، ورئيس الوزراء/ عبدالقادر باجمال، والمناضلين الأفذاذ الرفيق/ أنيس حسن يحيى، والرفيق/ علي عبدالرزاق باذيب، واللواء/ أحمد مساعد حسين، والأستاذ الحبيب/ عبدالله صالح البار، وعلي أحمد السلامي، ومحمد علي أحمد، واللواء/ عبدالله علي عليوه، وعبدالله أحمد غانم، وعلي الطمباله العولقي، والدكتور/ قاسم لبوزه، وأحمد الرهوي اليافعي، وطه أحمد غانم، وعلي منصور رشيد، وحسين محمد بن عرب، ومحمد عبدالله البطاني، والدكتور/ حسن أحمد السلامي، وعبدالله علي طرموم الدياني، ومحمد منصور الجنيدي، وناصر صالح جعسوس، وأحمد صالح عليوه، والشهيد/ سالم علي قطن، والدكتور/ علي حسن الأحمدي، واللواء/ عوض محمد فريد الطوسلي، وحامد أحمد لملس الخليفي، والشاعر/ حسن عبدالله عبدالحق، والدكتور/ محمد سالم بن بريك، والدكتور/ ناصر محسن باعوم، وأحمد ناصر الحماطي، وصالح العاقل بن رشيد، والدكتور/ مرشد شمسان الحكيمي، وسالم أحمد درعان، والدكتور/ محمد أحمد ناصر الحمش المدحجي، وعارف عوض الزوكا، والدكتور/ عبدالله محسن طالب باسرده.
هذه الكوكبة من السياسيين والمناضلين والمفكرين والقادة العسكريين لم يتسع لهم صدر عدن ولا حواريها ولا حوافها لاحتضانهم، وحينها قرروا الرحيل على دفعاتٍ وجماعاتٍ وبشكلٍ فردي، وجد الجميع مكاناً ومُستقراً آمناً ومريحاً في صنعاء العاصمة، وتعز، والحديدة، والبيضاء، وذمار، ومأرب.
وصديقي/عبدالله باسرده، وفي أثناء هجرته الاختيارية إلى صنعاء، وجد فرصةً للتأهيل ومواصلة الدراسة للماجستير والدكتوراه في روسيا الاتحادية، وبعد عودته عاد إلى رحاب جامعة عدن بعد أن فُصِل منها بسبب هجرته لشمال الوطن، ومارس كغيره من الزملاء مهنة التدريس والبحث العلمي في كلية الاقتصاد والإدارة بعد أن تم إقصاء عدد لا بأس به من أساتذة الجامعة بسبب موقفهم السياسي والحزبي في مرحلة ما سُميت آنذاك بانقسام (الزُمرة والطُغمة)، وهم جناحي الصراع الدامي في الحزب الاشتراكي اليمني، وللأسف فإن ذيول وتبعات تلك الفتنة الخبيثة لازالت تجُرُ أذيالها وتأثيراتها حتى يومنا هذا وأن كانت بأشكال ٍمتعددة.
ولكفاءة ومقدرة صديقنا /عبدالله لشغل منصب المستشار الثقافي لبلادنا في جمهورية روسيا الاتحادية، قرر البروفيسور المرحوم طيب الذكر/ صالح علي باصره وزير التعليم العالي والبحث العلمي، أن يُعينه كمستشارٍ ثقافي في روسيا، وكان ذلك في العام 2006م تقريباً، واستمر في هذا المنصب الهام حتى العام 2014م.
أتذكر أنني التقيته في زيارتنا الأخيرة في نهاية عام 2014م، أنا ووفد جامعة عدن العلمي والأكاديمي، وقد كان نعم المسؤول الرفيع الذي رتَّب برنامجنا الحافل في المؤسسات الأكاديمية والثقافية الروسية، وتُوِّجت زيارتنا العِلمية بالتوقيع على اتفاقيةٍ أكاديميةٍ مع جامعة لومانسيف الحكومية الروسية في موسكو، وأتذكر أن ذلك البرنامج الحافل ساهم فيه وبفعالية ٍالدكتور العزيز/ أنور الصبيحي مساعد المستشار الثقافي.
قد يلاحظ القارئ اللبيب أن هناك تداخلاً مقصوداً بين سرديتين في مقالتنا هذه:
الأولى: لعرض مناقب صديقنا المرحوم/ عبدالله باسرده وهي سردية ثرية إذا ما غرقنا في تفاصيلها المتشعبة.
الثانية: وجود سردية موازية ٍ لتاريخٍ مُؤلمٍ من التصفيات والخصومات لرفاق الجبهة الواحدة، وللحديث عن تربة عدن وكأنها مثلت تربة طاردة للرفاق منذ مرحلة مطلع الستينات من القرن العشرين، واستمرت تلك السردية الحزينة إلى يوم كتابة مقالنا هذا، تلك السرديات لم تكن متناقضة قط، بل إن تلك السرديتان تتكاملان في جوهر مضمونهما ومحتواهما، وتلتقيانِ في عناصرهما إلى حد التطابق، كيف لا ونحن لازلنا نُدون في ذات المرجل الناري الدموي الذي كلما قلنا بأنها قد فُرجت، فإذا بها تشتعل سعيرها من جديد وبدوامٍ وتكون دائرتها أوسع من ذي قبل.
وكأننا أمام لعنة الفراعنة بقصتها الأسطورية المتوارثة، أوأننا أمام لعنات الجغرافيا والتاريخ اليمني الطويل الذي يتجاوز ألفي عامٍ قبل التاريخ اليمني الحميري الذي احتفلنا به قبل أسابيع بعامه الجديد، أم أنها لعنة الجيرة من (الأَعْرَاب) الحمقاء المُتخمين بترف مال البترو-دولار الذي تحول إلى لعنةٍ شاملةٍ على جميع أقطارنا العربية.
إن سردية البروفيسور/ عبدالله باسرده هي اختزال لسردية اليمن الجريح من أشقائه والبعض من أبنائه اليمنيين الذين يتماهون وينسجمون في مواقفهم السياسية مع أعداء اليمن العظيم.
الخلاصة:
نُودع روح صديقنا وحبيبنا العزيز/ عبدالله محسن باسرده، بألمٍ عميقٍ وحسرةٍ موجعةٍ بعد سبع سنواتٍ ونيف من عدوان وحشيٍ قام به الجار العربي الخليجي (السعودي-الإماراتي)، دمّر خلالها مُعظم مُقدرات شعبنا اليمني العظيم المادية والروحية والثقافية، وقتل من شعبنا مئات الآلاف، وجرح أضعاف عدد الشهداء، لكن بعد كل هذا العدوان لازال الأحرار في اليمن العظيم يُلقنون الأعداء دروساً بليغةً في المقاومة والشرف والعزة والكرامة.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾