Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
البروفيسور بن حبتورالمقالاتمكتبة القلم

وداعاً صديقي وأستاذي الهبروش

23 أغسطس 2018م

المصدر: رأي اليوم

ينتمي أستاذنا وصديقنا العزيز البروفيسور مهدي بن سالم بن علي الهبروش إلى مدينة الروضة عاصمة مديريتنا العزيزة والموسومة بمديرية الروضة، محافظة شبوه، هذه المدينة كانت ولازالت حاضنة لأسرٍ فقهيةٍ كريمةٍ، لا بل إنها ربما سُميت بمؤسسها الأول تقريباً وهي روضة بن إسرائيل، أحد ففقهاء الأمة من زمن قديمٍ مَضى، وتواصل أهل العلم وحاملو مشعله مُنذ ما يقارب الـ 500 عام ونيف من أبناء هذه المدينة المُباركة، وليس هناك أوضح من اجتهاد أحد أبنائها الأوائل وهو الشيخ/ جمال الدين محمد بن عبدالقادر بن أحمد الروضي الحباني الحضرمي المتوفي عام (1015هـ)، الذي ألف مخطوطة كتاب هام بعنوان (شذور الإبريز في لغات كتاب الله العزيز)، هؤلاء حملوا العلم جيلاً بعد جيل، ووثقوا علمهم الديني الرصين بالمخطوطات التي لاتزال تزخر بها هذه المدينة العامرة، ولأنها مدينة ذات سُحنة مَدنيةٍ حضرية كانت نقطة جذبٍ والتقاء للعديد من الأسر والجماعات المدنية في منطقتنا، وتحولت إلى حاضرة وموئل للعديد من المجتهدين من العلماء والفقهاء والدعاة، وكانت أسرة أستاذنا العزيز الهبروش إحدى تلك الأسر التي طاب لها العيش والمقام في ربوع ديارها والتكسب بعرق الجبين من وديانها وجبالها وبساتينها وأشغالها، هذه المدينة الهادئة المتسامحة التي تعايش بها كل الأطياف العديدة من فئات المجتمع اليمني، فمنهم الهاشميون، والقضاة الفقهاء، والعسكر، والحرفيين، والفلاحين وغيرهم.

عرفت أستاذنا وتعرفت عليه شخصياً منذ وقت مُبكر حينما كان يزور مع بعض أفراد أسرته منطقة الغيل وقريتنا غُرير تحديداً، وكانت أسرته تمتلك علاقة شخصية حميمية مع أفراد من أسرتنا وهي علاقة طبيعية بين الأسر الساكنة في منطقتنا بشكل عام، ولأن منطقة الغيل هي مجاورة لمركز المديرية الروضة، نشأت تلك العلاقات الودية والصداقة بين الأسر، لذا تكرار الزيارات والعمل المشترك في العمل الزراعي التشاركي هي من قربت المسافات الاجتماعية بين الناس.

وللتذكير فحسب فإن مدينة الروضة كانت إحدى الحواضر الهامة جداً في سلطنة الواحدي المُزدهرة آنذاك إبان حكم المستعمر البريطاني، وكانت سوقاً تجارياً جاذباً للعديد من رجال المال والأعمال ونقطة وصل بين مدن هامة في السلطنة الواحدية هي مدينة حبان شمالاً، وحوطة الفقيه علي جنوباً، باتجاه بقية المدن والحواضر الحضرمية.

عرفناه شاباً ألمعياً متقد الذكاء بين أقرانه، متواضعاً في تعامله، ولذلك فقد اهتم به إخوانه، وكانوا من بين الشريحة المثقفة المتعلمة في المدينة، أرسلوه للدراسة الإعدادية إلى مدينة ميفعه التي كانت عاصمة يوم ذاك للسلطنة الواحدية، وبعدها أرسل للدراسة في مدينة الحوطه العبدلية عاصمة لحج الخضراء إلى أن اكمل المرحلة الثانوية.

أُبتعث للدراسة الجامعية في الجماهيرية الليبية الاشتراكية إلى جامعة بني غازي وتخرج منها بتفوق لافت وعاد للعمل كمعيد ومحاضر في كلية الاقتصاد والإدارة لجامعة عدن، ومنذ ذلك الحين توثقت علاقاتنا ورفقتنا في حرم الجامعة، حينها كنّا طُلاباً بالجامعة بالسنة الثالثة بالكلية، ولأنه كان مُلماً وذكياً في تخصصه (الإحصاء)، عمل مباشرة كمعيد في تخصصه، وأتذكر أنه كان يقدم لنا المادة العلمية (الجافة) نسبياً بطرق سهلة محببه وسلسه ولم نعد نهتم كثيراً نحن كطلاب لما يقدمه المحاضر الرئيسي للمساق لاكتفائنا بما يقدمه المعلم المعيد/ مهدي رحمة الله عليه.

وبعد هذه المدة الزمنية التي أمضاها كمعيد بالكلية، هاجر إلى أوروبا إلى جمهورية بلغاريا مرة أخرى لطلب العلم ولمواصلة دراسة الماجستير والدكتوراه، وعاد منها وقد حقق تفوقاً علمياً كبيراً، وعمل مباشرة كمحاضر لعدد من المساقات في الاختصاص العام للإحصاء، وبرع بتفوق في تقديم محاضراته، وأشرف على العديد من اللجان العلمية لتطوير عددٍ من المساقات ابتداءً من القسم العملي مروراً بالمجلس الأكاديمي ومجلس الكلية وحتى اللجان المركزية على مستوى الجامعة، علاوة على اشتراكه في عدد من لجان تقويم الأعمال العلمية لعددٍ من طلاب الدراسات العليا داخل الجامعة وخارجها.

عند سماعي بنبأ وفاته الأليم، تألمت كثيراً بأنني لم استطع المشاركة في تقديم واجب العَزاء ولا الحضور في تشييع جثمانه الطاهر، وذلك للظروف التي نعيشها الآن في اليمن، لكنني رددت في نفسي تلك الآية الكريمة العظيمة، بِسم الله الرحمن الرحيم (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنة (27) ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضية مرضية (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جنتي (30) صدق الله العظيم

إنا لله وإنا إليه راجعون، فكلٍ منا له نهاية محتومه وجميعنا إلى ربنا لراجعون، لكني كنت قد تمنيت الحضور والتعبير المباشر عن ألمي ووجهي تجاه فقدانه لأنه مَثَل رمزيةً للصداقة الصادقة والأخوة المميزة والنجاح اللافت بين جميع أقرانه، لكنني أكرر مرة أخرى بالتوجه لأسرته الكريمة بالتعازي القلبية، داعياً الله عز وجل بأن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهم أهله وذويه وطلابه ومحبيه الصبر والسلوان، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لقد جاءت وفاة أستاذنا القدير البروفيسور/ مهدي سالم علي، كنقطة التقاء الحزن الأليم مع ما يعيشه الوطن الكبير اليمن من أحزان متسلسلة منذ سنوات، وكأن القدر والمشيئة الإلاهية أرادت لجميع عشاق ومحبي الدكتور الهبروش أن لا يتذكروا حزنهم عليه إلا ضمن سياق وطني كبير، وهو حزنهم على اليمن العظيم وما يتعرض له من مؤامراتٍ ودسائس وخيانات، وهنا نجدد الدعوة والابتهال بأن يخلص اليمن، كل اليمن من ما هو فيه، وأن يتجاوز محنته بأقل الكلف والخسائر، انه سميعٌ مُجيب.

لازالت لي أمنية سكنت عميقاً في نفسي، أتمنى أن يحققها أي أحدٍ منا، وهو أن هؤلاء الأساتذة المتميزون والمؤثرون في محيط كلياتهم وجامعاتهم ومحافظاتهم بأن يحضوا بشيء من التكريم والتبجيل، لتخليد أعمالهم العلمية وإنجازاتهم الثقافية والحفاظ على كتاباتهم وأبحاثهم وكُتبهم وسيرتهم العطرة، هؤلاء يجب أن لا نترك للزمن والعابثين أن تنسى أعمالهم وذكرياتهم، كي لا تنسى الأجيال المتعاقبة بصماتهم، لازلت أكرر في كتاباتي واحاديثي بأن هؤلاء الأساتذة الأفاضل كانوا وسيظلون قناديل مشعة في سماء الوطن، لقد أضاءت وأنارت بنور العلم دروب ومسالك عديدة لقوافل من الأجيال المتعاقبة، إذاً كيف لنا أن ننساهم وننسى تاريخهم، ونهمل إرثهم وتراثهم، والشعوب الحية والمحترمة بالعالم أجمع تحتفظ لهؤلاء النابهين بأعمالهم وإنجازاتهم وتخليدها في متاحف خاصه بمؤسساتهم أوفي مناطق سكناهم، لكي تتراكم المعرفة وتكون عبرٍ للتاريخ كي يزورها وينهل منها طلاب العلم والمعرفة، ومدينة الروضة كانت ولازالت حاضرة للعلم والثقافة وأتمنى أن تحافظ على هويتها وتراثها وتكون للفكرة مناخ ملائم للتنفيذ، لأنها حاضنة للعديد من المؤهلين رفيعي المستوى من النواحي العلمية والثقافية والاجتماعية، واللَّه أَعْلَمُ مِنَّا جَميعاً.

﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى