كتبمكتبة القلم

الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد

د. حمدي سيد محمد محمود

الفردية والقلق الوجودي عند كيركجارد؛ قراءة فلسفية شاملة
“يشكل مفهوم الفردية عند كيركجارد حجر الزاوية في مشروعه الفلسفي، بوصفه ردًّا جذريًا على النزعة الجماعية السائدة في الفلسفة الهيغلية، وعلى كل منظومة فكرية تسعى إلى إدماج الإنسان في الكليات المجردة أو الأنظمة الشمولية. في نظر كيركجارد، لا يُمكن فهم الحقيقة إلا من خلال الفرد بوصفه كائناً وجودياً متفرداً، يحمل في ذاته التوتر الدائم بين المحدودية واللانهاية، بين الزمني والأبدي، بين الجسد والروح. ولهذا فإن الفرد ليس مجرد عنصر في مجتمع أو جزء من نظام، بل هو كائن حر، مسؤول أمام الله والوجود، يعيش باستمرار في توتر درامي مع نفسه والعالم من حوله.

إن الفردية عند كيركجارد ليست تمجيداً أنانياً للذات أو دعوة إلى الانعزال، بل هي موقف وجودي يتأسس على الوعي الذاتي العميق والمواجهة الصادقة مع مسؤوليات الحرية. فالفرد لا يُصبح “ذاتاً” إلا حين يعي أنه يقف بمفرده أمام الله، وأنه ليس له مهرب من اتخاذ القرارات المصيرية التي تحدد معنى حياته واتجاهها. هذا الوعي بالذات، والقدرة على اختيار الذات أمام الله، هو ما يميز “الذات الحقيقية” عن “الذات المزيفة” التي تنخرط في تكرار اليومي وتنسى وجودها الأصيل.

لكن هذه الفردية، بما تنطوي عليه من حرية ومسؤولية، تُفضي حتمًا إلى القلق الوجودي، الذي يعدّه كيركجارد التجربة الجوهرية للإنسان أمام الحقيقة والحرية والموت والله. القلق الوجودي ليس مرضاً نفسياً ولا حالة طارئة، بل هو نقطة التماس بين الإنسان ومصيره النهائي، ذلك الشعور العميق بالرهبة أمام انفتاح الإمكانيات اللانهائية للحرية. ففي كتابه “مفهوم القلق” (The Concept of Anxiety)، يبيّن كيركجارد أن القلق هو الحالة التي تسبق الخطيئة، وهو في الوقت ذاته تعبير عن قدرة الإنسان على الاختيار والانفتاح على الأبدية. القلق عنده هو حالة “ملتبسة”، فهو يحمل في طياته التهلكة والنجاة معاً، السقوط والانبعاث، الخوف والأمل.

وفي هذه اللحظة من القلق، ينكشف للإنسان أنه ليس كائناً مغلقًا، بل منفتح على المطلق، وأنه لا يجد في العالم معنى جاهزاً، بل يجب أن يصنعه من خلال الإيمان، لا كمعرفة عقلانية، بل كـ”قفزة” وجودية، يغامر بها الفرد نحو المجهول المطلق: الله. هنا يتجاوز كيركجارد العقلانية الدينية التقليدية، ويدعو إلى نوع من الإيمان التراجيدي.

الفرد في فلسفة كيركجارد هو إذًا مشروعٌ دائمٌ للوجود الأصيل، مشروع محفوف بالتوترات والاختيارات المؤلمة، لكنه وحده القادر على أن يمنح الحياة معناها. وهو يرى أن غياب هذا البعد الفردي الأصيل، وانغماس الإنسان في جماعات هلامية أو قناعات زائفة، يؤدي إلى “يأس روحي”، لأن الإنسان حين يهرب من حقيقته، يبتعد عن ذاته وعن الله في آنٍ واحد. من هنا تصبح الفردية الوجودية لا مجرد مطلب فلسفي، بل نداءً روحيًا وأخلاقيًا للإنسان المعاصر ليعيد التفكير في علاقته بالعالم، بذاته، وبالمطلق.

وفي ضوء ذلك، تتضح عظمة مشروع كيركجارد الذي لم يكن مهتماً بإقامة نسق فلسفي مغلق كما فعل هيغل، بل كان يسعى إلى إيقاظ الإنسان من غفلته الوجودية، ودفعه إلى مواجهة ذاته أمام المطلق، ليدرك أنه مدعوٌّ إلى أن “يُصبح ذاته”، لا كما يريد العالم، بل كما أراده الله. إنها فلسفة تنطلق من الذات لتعود إليها، لكنها في هذا المسار تطهّرها من الزيف، وتطهّر الوجود من السطحية، في محاولة دؤوبة لكشف المعنى الأصيل للحياة الإنسانية.”

د. حمدي سيد محمد محمود

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى