الدكتور طه حسين حين عاد من بعثته في فرنسا، وقد استُقبل استقبال الأعلام، حتى أكرمه ملك مصر بنفسه.
وفي أول خطبة جمعة حضرها الملك برفقة طه حسين، أراد الخطيب أن يتزلّف ويُظهر المديح للملك بطريقة “ذكية”، فقال من على المنبر:
“لا عبس ولا تولّى لما جاءه الأعمى”
في إشارة إلى أن ملك مصر لم يتأفف من استقبال طه حسين، رغم كونه كفيفًا.
لكن هذه الجملة ـ رغم ظاهرها ـ كانت تحمل إساءة غير مباشرة إلى رسول الله ﷺ، الذي نزلت فيه سورة “عبس” عتابًا له من الله، لا تأديبًا أو إدانة.
ومن بين جموع الحاضرين، وقف رجل لا يسكت عن الحق: الشيخ محمد شاكر، وكيل الأزهر حينها، فهتف بعد الصلاة:
“أعيدوا صلاتكم ظهرًا، فإن الخطيب قد كفر!”
ضج المسجد بدهشة وذهول… وأُعيدت الصلاة كما أمر.
أوضح الشيخ شاكر لاحقًا أن الخطيب قد تعرّض لشخص النبي ﷺ تعريضًا فيه انتقاص، حين مدح الملك بأنه “لم يعبس”، بينما أوحى ضمنًا بأن النبي ﷺ فعل ذلك، فجعله دون الملك منزلة، وهذا كفر صريح.
رفع الشيخ شكواه إلى السلطان، فجُنّ جنون المنافقين، وأوعزوا للخطيب أن يقاضي الشيخ شاكر بتهمة التشهير! فأُحضر الشيخ إلى المحكمة، وهناك قال بثقة:
“لا أريد علماء الأزهر ولا فقهاء العربية… أطلب مستشرقين كافرين بالله، لكنهم يعرفون لغة القرآن، ليُحكموا: هل ما قاله الخطيب تعريض بالنبي ﷺ أم لا؟”
كانت كلماته قاطعة كالسيف. فانسحب الخطيب من قضيته مذمومًا، ثم فُصل من عمله.
وسنوات مرّت، فإذا بالشيخ أحمد شاكر، ابن العلامة محمد شاكر، يروي خاتمة هذه القصة:
“رأيت ذلك الخطيب بعد سنوات… لم يعد ذلك المتعالي المنتفخ، بل وجدته ذليلاً خادمًا على باب أحد مساجد القاهرة، يجمع نعال المصلين، في ذل وصغار، كأنما طُبع الذل على جبينه… خجلت أن يراني، وأنا أعرفه ويعرفني… لا شفقة ولا شماتة، بل عِبرة: ومن يُهِنِ اللهُ فما له من مُكرِم.”
والأجمل، أن السلطان الحكيم لم يتدخل لينتصر لخطيب منافق، بل لمّا حاول رئيس ديوانه تأليب السلطان على الشيخ شاكر، ردّ عليه السلطان بحكمة:
“الأزهر أدرى وأعلم… ولن أحمي خطيبًا تعرّض لرسول الله ﷺ!”
السؤال الذي يطرح نفسه:
*أين علماء اليوم من شجاعة وعلم وورع علماء أمس؟*
الصورة للشيخ الجليل محمد شاكر – تعود لأواخر القرن التاسع عشر، رجلٌ جمع بين العلم والشجاعة… وبين الورع والنخوة.