اراء محليةاراء و اتجاهاتالاعلام المكتوبشؤون يمنية

مؤسسة دار بن حبتور… عقد من صياغة الوعي وتعميق الهوية اليمنية

الإثنين، 16 يونيو 2025 م

بقلم:
م.أمجد عبدالقادر

في زمنٍ تتلاطم فيه أمواج التغيرات، وتهدد رياح النسيان أعتى الصروح، تبرز بعض منظمات المجتمع المدني كنقاط ضوء تشرق في عتمة التحديات، لتعيد صياغة الوعي وتجدد العهد مع جوهر هويتنا وتلك هي مؤسسة دار بن حبتور للعلوم والثقافة والتوثيق، التي نحتفي اليوم بمرور عشرة أعوام على تأسيسها.
هذه المؤسسة التي رافقنا مسيرتها الحافلة خلال عقد من العطاء، قدّمت فلسفة قائمة بذاتها، ومنهجا متكاملا للنهوض بالعقل اليمني.

لطالما كان اليمن، بموروثه الحضاري العريق، منبعا للمعرفة وملتقى للفكر الخلاق، إذ احتضن عبر العصور إرثا غنيا من الإبداع الإنساني لكن في خضم التحولات العاصفة التي تعصف بالبلاد، يظل السؤال قائما: كيف نصون هذا الإرث من النسيان، ونضمن استمراريته للأجيال القادمة؟

هنا تبرز أهمية “مؤسسة دار بن حبتور”، التي لم تكتفِ بدور أرشيفي في حفظ الوثائق والمخطوطات، بل تحوّلت إلى مركز حي لإنتاج الفكر وتحفيز الذاكرة الوطنية لقد أعادت المؤسسة الاعتبار للوثيقة ككائن حي، لا كقطعة تاريخية ساكنة، واستثمرت فيها لبناء وعي جديد يتكئ على الماضي ليعيد صياغة المستقبل.

إنها تدرك أن حفظ التراث ليس مجرد عمل تقني، بل هو فعل إيماني عميق بأهمية ماضٍ يشكّل حاضرنا ويرسم ملامح مستقبلنا فالمؤسسة، التي أخذت على عاتقها مهمة وطنية نبيلة، تهتم بأنشطتها التي تبدأ من ترميم الأوراق، وصولًا إلى ترميم ذاكرة أمة، وإعادة ربط الأجيال بجذورها المعرفية التي استمدت منها عظمتها عبر التاريخ.

الفلسفة الكامنة وراء أنشطة المؤسسة تنبع من قناعة راسخة بأن المعرفة هي وقود النهضة الحقيقية؛ ليست مجرد كتب تصفّ على الرفوف، ولا مخطوطات تُعرض في المعارض فحسب، بل هي بذرة تُزرع في العقول لتثمر وعيا، وتنتج فكرا نقديا، وتُلهم إبداعا.
وهذا ما يتجسد في مشاريع المؤسسة النوعية التي تغوص في أعماق التراث، وتحلل قضايا المجتمع، وتقدّم رؤى جديدة تثري المشهد الفكري.

هذه المؤسسة الرائدة، التي تشكّل نافذة على عوالم الفكر، تسهم في صياغة وعي تاريخي وفلسفي لدى القارئ، وتدفعه نحو التساؤل والبحث.

وانطلاقًا من إيمانها بأن المعرفة لا حدود لها، أطلقت مؤخرا موقعها الإلكتروني الجديد (darbinhabtoor.org)، الذي نباركه اليوم كخطوة نوعية تعلي من شأن التراث اليمني وتضعه على خارطة العالم الرقمية.

يمثل الموقع بوابة رقمية تفاعلية تفتح أبوابها للباحثين من كل بقاع الأرض، وتوفّر مكتبة إلكترونية شاملة تضم مخطوطات مرقمنة، ومقالات بحثية، وكتبًا متنوعة، وأخبارًا وثائقية وثقافية إنه جسر يربط أصالة الماضي بحداثة التكنولوجيا، ويعزز مكانة اليمن كمصدر للمعرفة والإشعاع الحضاري.
ويؤكد أن التراث الحي لا يخشى الحداثة، بل يمتزج بها ليقدّم نفسه للعالم بأبهى صورة.

وما يلفت في مسيرة المؤسسة، هو اهتمامها العميق بتعزيز الدور الثقافي والمعرفي تجاه الأجيال الجديدة، وسعيها الدؤوب لحفظ الموروث الذي يكسبهم المعارف، ويؤهلهم للتحليل والتفكير النقدي.
وقد أسعدنا ما تضمّنته خطتها القادمة من إقامة ندوات ومؤتمرات، وإطلاق برامج توعوية، تصب جميعها في بوتقة بناء عقل يمني مستنير، قادر على فهم تحديات الحاضر واستشراف المستقبل.
وهي تسعى كذلك إلى تمكين الشباب والمبدعين، وإبراز دورهم كمفكرين وبناة للمستقبل، يستلهمون من ماضيهم المشرق ليصنعوا حاضرا واعدا.

يكمن جوهر التميز الذي تحققه مؤسسة دار بن حبتور في المرجعية الفكرية والوطنية التي تستند إليها، والمتمثلة في شخصية مؤسسها، البروفيسور الدكتور عبدالعزيز صالح بن حبتور، هذه القامة الأكاديمية والقيادية التي جمعت بين الرؤية الثاقبة والإرادة الفاعلة.

لم يكن الدكتور بن حبتور مجرد مؤسس، بل كان الفكرة الأولى والنواة التي انبثق منها هذا المشروع، وهو من وضع له ملامحه ورسم له طريقه وحدد أهدافه بدقة ووعي لقد انطلقت المؤسسة من إيمانه العميق بأن الأمم لا تُبنى على حاضرها فحسب، بل على ذاكرتها المتجذّرة، وأن صون الذاكرة الوطنية ليس ترفا ثقافيا، بل ضرورة وجودية لضمان البقاء والاستمرار.

بفضل هذه القناعة الراسخة، تحوّل المشروع إلى صرح ثقافي حي، يحمل في داخله نبض التاريخ وروح المستقبل، ويعمل بإخلاص على استعادة ما تشتت من الذاكرة اليمنية، وجمع ما تناثر من شواهدها، وتقديمها كزاد معرفي للأجيال.

وما يسعدنا أكثر هو توثيق مسيرته الفكرية والعلمية عبر المؤسسة، من خلال طباعة مؤلفاته وموسوعاته التي باتت مرجعا علميا لا غنى عنه للباحثين والمهتمين، وأجيال المستقبل.

في وقت تلقي فيه الظروف الراهنة بظلالها على المشهد العام في اليمن، تبرز مؤسسة دار بن حبتور كنور ساطع، وشاهد على أن الإرادة الثقافية قادرة على الصمود والإبداع، حتى في أحلك الأوقات.
وتبرهن على أن اليمن، بكنوزه الفكرية والإنسانية، قادر على النهوض، وأن العقل اليمني سيظل نابضا بالحياة، منتجا للمعرفة، ومضيئا للدروب.

وفي محطة الذكرى العاشرة لتأسيسها، والتي تمثل “اليوبيل البرونزي” 17 يونيو 2015 – 17 يونيو 2025، تبادر المؤسسة إلى تبني برامج جديدة أكثر إشراقا، تؤكد أن عقدها الأول لم يكن إلا بداية، وأن المستقبل يحمل آفاقا أرحب لمزيد من الإشعاع الثقافي والعلمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى