
الاخبار اللبنانية
الأربعاء 13 آب 2025
من الواضح أن الطريقة التي يتم التعامل بها، من قبل العديد من النخب السياسية والإعلامية، مع قضية الدولة والمقاومة، لا تشي بأن الخلفية التي تحكم هذه الحملة على المقاومة هي خلفية بنّاءة، أو عقلانية، أو موضوعية، سواء كان المتحكّم بهذه الخلفية اعتبارات أيديولوجية، أو عنصرية، أو مصلحية−فئوية، أو تبعية للخارج، أو مجمل ما ذُكر.
من عناوين هذه الحملة محاولة الترويج لسردية، تظهر نوعاً من التنافي بين مفهوم الدولة وتمظهراته ومفهوم المقاومة وتمظهراته، كما بين مفهوم السيادة وتمظهراته ومفهوم المقاومة وتمظهراته، للوصول إلى خلاصة مفادها أن استعادة الدولة، أو إعادة بنائها، أو بسط سلطتها،… كل هذا يتطلّب إنهاء المقاومة، وتسليم سلاحها، بل والقضاء على مجمل ما يتصل بها من وعي وثقافة وسوى ذلك.
لكن، من يدقّق في عناصر سردية هؤلاء، يكتشف أنهم يستخدمون مفهوماً خاصاً بهم للدولة، هو أبعد ما يكون عن مفهومها العلمي والوظيفي. إنهم يعتمدون مفهوماً صنمياً للدولة، وليس مفهوماً وظيفيّاً لها. وشتان بين المفهوم الصنمي للدولة ومفهومها الوظيفي.
المفهوم الصنمي للدولة مفهوم ناقص، أبتر، مُستلَب، منفصم عن الواقع، ويحمل -في واقعنا العملي- الكثير من التبعية والتخادم مع الخارج، وفيه الكثير من التضليل، ويتعارض مع المصالح الوطنية العليا، ويتنافى مع فلسفة نشوء الدولة ووظائفيتها في سياقها العلمي، ويتناقض مع حقائق التاريخ، ومنطق السياسة والدولة.
وبيان مجمل ما تقدّم ينطوي على حقيقة، مفادها أن الدولة، في أصل نشوئها وفلسفة وجودها، ومشروعيّتها، تقوم بشكل أساسي على محورية الشعب، ووظائفها تجاهه، وواجباتها نحوه. ومن أهم هذه الوظائف حماية هذا الشعب في مقابل ما يتعرّض له من أخطار وتهديدات خارجية، ومن أهم تلك الواجبات الدفاع عنه في مقابل ما يواجهه من عدوان، يستهدفه بالقتل والضرر والأذى، أي إنه لا يمكن أن نتحدث في الدولة من دون أن نتحدث في الدفاع والحماية، وإلّا، سيكون هذا البحث بحثاً ناقصاً، وأبتر، عندما نُقصي عن هذا البحث أولوية الدفاع عن الشعب، وحماية أمنه وسيادته وممتلكاته، فضلاً عن حياته ووجوده. وكذلك عندما تكون بعض المواقف والسياسات، في موضوع الدفاع والحماية، فيها الكثير من التشويه والتضليل، أو المقاربات الزائفة التي تتنافى مع الوقائع، وتكذّبها حقائق التاريخ والحاضر، وجميع التجارب السالفة.
إنّ الدولة التي تتخلّى عن وظيفة الدفاع عن شعبها، وتريد تسخير مواردها لخدمة مصالح فئوية ضيّقة لبعض فئاتها، أو تريد التنكّر لحقوق مواطنيها في الشعور بالأمن، وواجبها نحوهم في حمايتهم؛ ليست دولة كاملة الأوصاف، بل هي نظام أبتر، يسعى بالتضليل الإعلامي إلى اكتساب صفة دولة ومشروعيتها، ولينفي عن الأطر الأخرى -كالمقاومة الشعبية- مشروعية وظيفية شعبية ووطنية، اكتسبتها بالإنجاز الوطني والتاريخي.
الدولة التي لا تعطي أولوية لحماية شعبها والدفاع عنه، هي أقرب إلى أن تكون صنم دولة، وليست دولة مكتملة الأركان، وللأسف، فإنّ ما تعمل تلك النخب المُرجِفة على الترويج له، هو هذا المفهوم الصنميّ والمشوّه للدولة
الدولة التي لا تعطي أولوية لحماية شعبها والدفاع عنه، هي أقرب إلى أن تكون صنم دولة، وليست دولة مكتملة الأركان، وللأسف، فإنّ ما تعمل تلك النخب المُرجِفة على الترويج له، هو هذا المفهوم الصنميّ والمشوّه للدولة. هل يقتضي منطق الدولة تشريع الأبواب أمام العدوّ للهيمنة على الوطن، والإيغال في العدوان عليه؟ وهل المدخل إلى بناء الدولة يبتدئ من إضعاف قوّة الردع الداخلية، التي قد تعين على الردّ على أي اعتداء من الخارج؟
وهل السبيل لاستعادة دور الدولة يكمن في إغراء عدوّ لبنان، بممارسة المزيد من التغوّل والقتل والأذى في طول البلاد وعرضها؟ وهل تقديم المزيد من التنازل للعدوّ، سوف يقنعه بوقف عدوانه وانتهاكاته، أم سوف يغريه بالمزيد من العدوان، عندما نثبت له أن وسائل الابتزاز والتهديد التي يستخدمها معنا هي وسائل ناجحة، ما يدفعه الى رفع سقف مطالبه وأهدافه، حتى يصل إلى مديات، لا تهدّد فقط أمن الوطن والمواطن، بل حتى وجود الكيان، ومصالحه الاستراتيجية؟ أليست هذه سيرة العدوّ وطريقته، التي لا تخفى على ذي عينين؟
إنّ تشويه مفهوم الدولة، وجعله أقرب إلى الصنميّة، يفضيان إلى مجمل تلك الالتباسات التي يروّج لها إعلام تلك النخب، من قبيل أن المقاومة هي من يمنع بناء الدولة، ومن يحول دون بسط سلطتها. وفي هذا تلبيس على المواطن، واستخفاف بالعقول، وإيغال في ممارسة الاستغباء السياسي، لأنّ المقاومة التي تملأ الفراغ الوظيفي لوظائف الدولة، ليست هي من يمنع بناءها، بل هي من تعوّض غيابها.
والمقاومة التي تعمل للدفاع عن لبنان، ليست هي من يحول دون بسط الدولة لسلطتها على كامل أراضيها، وإنما هي من يسعى إلى تمكين الدولة من حضورها وبسط سلطتها، في مقابل من يعمل على تغييبها، من خلال الإمعان في إهمال وظيفتها الأساس في الدفاع والحماية، ولنا في هذا أكثر من مثال، ويكفينا ما قامت به المقاومة عند تحرير الجنوب، أليست هي من مكّن الدولة من بسط سلطتها، واستعادة حضورها، وقيامها بجملة من أدوارها؟
عندما تعجز الدولة عن قيامها بوظائفها الأساس في الدفاع والحماية، تكون المقاومة الشعبية نعمَ المعين للدولة على تحقيق ذاتها، واستعادة دورها، وبسط سلطتها، وهذا ما تثبته جميع تجارب المقاومة في التاريخ والحاضر. إنّ المقاومة ــــــ وتحديداً في الظروف التي نعيش، من عجز الدولة وقواها العسكرية عن ردع العدوان ــــــ هي من أبرز تجليات الدولة في وظائفها، وبسط سلطتها، وحصرية سيادتها، لأنها هي من يعمل على تمكين الدولة على تحقيق ما تقدّم، في حين أن من يعمل على إفقاد الدولة بعض عناصر قوة الردع لديها، في مقابل العدوان الخارجي عليها، هو من يحول دون بناء الدولة، واستعادة دورها، وبسط سيادتها، لأنه هو من يريد من هذه الدولة أن تتنكّر لوظيفتها في الدفاع، وأن تتخلّى عن واجبها في حماية شعبها، أي هو من يريد صنم دولة -لا دولة فعلية- منقوصة السيادة، ضعيفة السلطة، عاجزة عن حماية شعبها، متنكّرة لحقوقه، تتخلّى عن واجبها في الدفاع عنه.
إنّ الحقيقة التي يجب البوح بها بكل وضوح، هي أن مَن منع قيام الدولة، وما زال يفعل، هو -تحديداً- مَن منع الدولة من قيامها بوظائفها في الدفاع عن شعبها، وحمايته من أي عدوان أو تهديد، وأنّ مَن يمنع الدولة من بسط سلطتها، هو مَن يمنع الدولة من اعتماد استراتيجيات وطنية للدفاع عن لبنان بوجه التهديد الخارجي، وأنّ مَن يمنع الدولة من تحقيق كينونتها، هو مَن يهمل أولوية الدفاع عن إنسانها وأرضها وسيادتها، وأنّ مَن يمنع الدولة من إعادة بناء نفسها، هو -تحديداً- مَن جعل الكثير من مواطنيها يفقدون الثقة بها… أنها مَن يهتم لأمنهم، ويعتني بحفظ حياتهم، ويقلقها ما يهدّد وجودهم، ويستنفرها الدفاع عنهم، ويعنيها الحفاظ على أرضهم وعرضهم.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية
……………………
صحيفة الاخبار اللبنانية الالكترونية