اراء عربية و دوليةاراء و اتجاهاتالاخبارالاعلام المكتوبشؤون فلسطين

«إسرائيل الكبرى»: من الحلم التوراتي إلى المشروع السياسي

أحمد الدبش

 

#الاخبار_اللبنانية
الخميس 21 آب 2025

منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم، ظلّ مفهوم «إسرائيل الكبرى» حاضراً في قلب السياسات الإسرائيلية و محرّكاً أساسياً للصراع العربي–الإسرائيلي. لم يكن هذا المفهوم مجرد حلم توراتي أو وعدٍ غيبي، بل تحوّل، مع مرور الوقت، إلى مشروع سياسي متكامل يسعى في توسيع حدود «دولة إسرائيل» لتشمل مساحات شاسعة من الأراضي العربية المجاورة، تمتد من النيل إلى الفرات وفقاً للرواية الدينية التوراتية.

تتجلّى خطورة هذا المفهوم في كونه يجمع بين الأسطورة الدينية والبراغماتية السياسية، إذ وُظّفت النصوص المقدسة لإضفاء شرعية أخلاقية على مشروع استيطاني استعماري مدعوم من القوى الغربية الكبرى. ومع أن الصراع في جوهره سياسي، فإن استدعاء البعد الديني جعل القضية أكثر تعقيداً وأطول أمداً.

الجذور الدينية للمفهوم
يستند خطاب «إسرائيل الكبرى» إلى نصوص توراتية حددت ما يُعرف بـ«الأرض الموعودة»، وهي الأرض التي وُعد بها نسل إبراهيم. في سفر التكوين (15:18) ورد النص الآتي: «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ». وتتكرر الإشارة إلى هذه الحدود في نصوص أخرى مثل التثنية (11:24)، والعدد (34:1–15).

لم تبق هذه النصوص في حدود المعتقد الديني، بل جرى تسييسها بشكل مكثف منذ تأسيس الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر. فقد تحولت إلى سند أيديولوجي يُستخدم لتبرير السيطرة على أراضٍ تتجاوز فلسطين لتشمل أجزاء من سيناء والأردن وسوريا والعراق. ويرى المؤرخ إيلان بابيه أن هذه النصوص مثلت «البنية التحتية الرمزية» التي منحت المشروع الصهيوني قوته الأخلاقية والدعائية.

من الحلم إلى الأيديولوجيا
لم يتحدث تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، عن إسرائيل الكبرى في كتابه «دولة اليهود» (1896). فقد ركز على إقامة دولة قومية آمنة لليهود، ولكنه ترك الباب مفتوحاً للتوسع المستقبلي، فقد جاء في يومياته: «سوف نطالب بما نحتاج إليه ـــــ كلما ازداد عدد المهاجرين، ازدادت (حاجتنا) إلى الأرض».

أمّا ماكس نوردو، خطيب الحركة والمنظمة الصهيونية، فيشدد على أن فلسطين والأقاليم المجاورة توفر متسعاً من المساحة يستوعب ما بين 12- 15 مليوناً من السكان اليهود. دون أن يحدد لنا بالضبط ما هي تلك الأقاليم المجاورة التي يعنيها.

يعتبر كتاب الحاخام صموئيل ايزاكس عن «الحدود الصحيحة (أو الحقة) للأرض المقدسة» بمثابة التعبير الرسمي عن المعايير التاريخية والدينية لدى الجناح الأرثوذكسي المتدين داخل الحركة الصهيونية. فالحدود التي يختارها ايزاكس للأرض المقدسة هي تلك الحدود التي يرد وصفها في الإصحاح 34 من سفر العدد (1- 12).

في المذكرة المقدمة إلى مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الأولى، في باريس 1919، طالبت الحركة الصهيونية بالاعتراف بـ«الحق التاريخي للشعب اليهودي» في فلسطين وبمنحهم حق إعادة بناء وطن قومي هناك. كما تضمنت المذكرة تصوراً موسعاً لحدود فلسطين المستقبلية، وفقاً للرؤية الصهيونية، إذ تمتد:
– شمالاً، من شاطئ صيدا على البحر المتوسط مروراً بتلال جبال لبنان حتى جسر القرعون.
– شرقاً، بمحاذاة الخط الحديدي الحجازي وصولاً إلى خليج العقبة.
– جنوباً، وفق حدود يجري الاتفاق عليها مع الحكومة المصرية.
– وغرباً، بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط.

تعكس هذه المطالب المبكرة إدماج البعد الديني والتاريخي مع التوجهات التوسعية للحركة الصهيونية، إذ تجاوزت حدود فلسطين الانتدابية لتشمل أجزاء واسعة من لبنان والأردن وشمال السعودية.
توصّل المؤتمر الصهيوني الثاني عشر في كارلسباد (تشيكوسلوفاكيا) بين 1- 14 من أيلول 1921، إلى اتخاذ قرار خاص حول مسألة الحدود أعلن فيه باسم الشعب اليهودي ما يلي:

«يأخذ المؤتمر علماً، وسط الارتياح بأن منطقة شرقي الأردن، والتي ينظر إليها الشعب اليهودي كجزء متمم من أرض إسرائيل، سوف تدمج في منطقة الانتداب الفلسطيني. ويجد المؤتمر نفسه ملزماً بالإعراب عن أسفه لكون مسألة الحدود الشمالية لأرض إسرائيل لم تجد سبيلها إلى حل مرض حتى الآن، ورغم جميع المساعي التي بذلتها اللجنة التنفيذية.

كما يطالب المؤتمر اللجنة التنفيذية بألّا تترك في المستقبل أي خطوة دون أن تطرقها وتتخذها للحؤول دون التخلي عن الوحدة الإدارية والاقتصادية لفلسطين لصالح سياسة مناطق النفوذ، ولكي لا يؤدي ذلك إلى تقليص إمكانات الاستيطان والاستعمار بوجه الجماهير اليهودية الباحثة عن عمل. ويأمل المؤتمر أن تستجيب حكومة الجمهورية الفرنسية لمصالح الشعب اليهودي وتفي بها».

برزت الحركة الصهيونية التصحيحية إلى حيز الوجود في عام 1925، وكان برنامجها الجديد أن «غاية الصهيونية هي تحويل فلسطين تدريجياً (مع شرقي الأردن) إلى كومنولث يهودي». كان فلاديمير جابوتينسكي، زعيم الصهيونية التصحيحية، أكثر وضوحاً. في مقاله «الجدار الحديدي»، دعا إلى فرض السيطرة على كامل الأرض التاريخية عبر القوة العسكرية، معتبراً أن المفاوضات مع العرب «مضيعة للوقت».
حدود الدولة والتوسّع!

يكشف تحليل تطوّر مفهوم «إسرائيل الكبرى» عن كونه ليس مجرّد حلم توراتي أو رواية دينية أسطورية، بل مشروعاً سياسياً ممنهجاً متكامل الأبعاد، جمع بين الشرعية الدينية والبراغماتية الإستراتيجية

شكّل قيام دولة إسرائيل عام 1948 الخطوة الأولى لتحقيق الطموح الصهيوني في إقامة دولة يهودية مستقلة على ما يُسمى «أرض إسرائيل». وقد أكد ديفيد بن غوريون، في مقدمة «الكتاب السنوي لحكومة إسرائيل» عام 1952، أن الدولة أُنشئت على جزء فقط من الأرض الموعودة، في إشارة واضحة إلى أن التوسع ظل هدفاً إستراتيجياً معلناً منذ البداية.

نشر كتاب «خنجر إسرائيل» نسخة من الخطة الإستراتيجية العامة التي كانت قد وضعتها هيئة أركان الحرب الإسرائيلية لعام 1956 – 1957، والتي جاء فيها: «إن المهمة القومية التي تضطلع بها دولة إسرائيل، ألا وهي جمع شتات الجاليات اليهودية المبعثرة في العالم وتهجيرها إلى إسرائيل، أن تلك المهمة تستدعي هجرة متصلة تستمر على الأقل لمدة جيل واحد (30 عاماً) وعلى الدولة الإسرائيلية أن تؤمّن الأحوال الطبيعية لحياة هؤلاء السكان… ولذا إن مهمتنا هي احتلال الأراضي العربية وتوطيد سيطرتنا عليها».

وفي عام 1967، وقف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان أمام حشد من أنصاره ليعلن: «يجب أن يدرك العالم الخارجي أنه بالإضافة إلى الأهمية الإستراتيجية التي تعلقها إسرائيل على كل من شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان ومضايق تيران، فإن سلسلة الجبال الواقعة غربي نهر الأردن تقع في صميم التاريخ اليهودي».

منذ قيام إسرائيل، تكشف السياسات المتبعة عن نزعة توسعية واضحة خلف معظم تحركاتها. فقد تدرجت من رفض مشروع التقسيم وضمّ مناطق عربية بذريعة الأمن القومي، إلى احتلال النقب والسيطرة على منطقة العقبة وتحويلها إلى ميناء إستراتيجي، وصولاً إلى العدوان الثلاثي عام 1956 وحرب حزيران/يونيو 1967. وتؤكد التصريحات المتكررة لقادة إسرائيل هذا التوجه، إذ تُطرح فكرة «تحرير أرض الوطن القومي اليهودي» باعتبارها مبرراً للتمدد المستمر، مع السعي نحو إقامة دولة مستقبلية تشمل كامل ما يُعرف بـ«أرض إسرائيل» ضمن حدودها التاريخية المنشودة.

بين عامي 1917 و1967، حاول قادة الحركة الصهيونية التوفيق بين توجهين رئيسيين داخلها: الجناح الأرثوذكسي المتدين من جهة، والتيار العلماني من جهة أخرى. فقد انطلق التيار الديني من الرؤية التوراتية التي تستند إلى الحدود المثالية للأرض الموعودة، كما ورد في الكتاب المقدس: «من نهر مصر إلى نهر الفرات». بينما ركز الجناح العلماني على الرقعة التاريخية الأصغر التي اعتبرها كافية لإقامة الدولة اليهودية، محدداً نطاقها بين دان شمالاً وبئر السبع جنوباً.

غير أن الطموحات الصهيونية العلمانية لم تقتصر على هذه الرقعة المحدودة، إذ أضاف قادتها مناطق أخرى اعتبروا أنها ضرورية لتحقيق ثلاثة أهداف إستراتيجية أساسية:

1- تعزيز البنية الاقتصادية عبر السيطرة على المراكز الحيوية القادرة على دعم اقتصاد عصري.
2- تأمين مقومات الدفاع العسكري عبر ضم مناطق مرتفعة وإستراتيجية.
3- إعادة تشكيل الحدود بما يمنح الدولة العبرية مجالاً أوسع للنفوذ.

توضح هذه الملامح كيف تجاوز المشروع الصهيوني، منذ بداياته، مجرد إقامة «وطن قومي» لليهود ضمن رقعة جغرافية محدودة، ليتبنّى تصوراً توسعياً شمولياً يستند إلى مزيج من الشرعية الدينية والضرورات الإستراتيجية، وهو ما شكّل الأساس الأيديولوجي لاحقاً لفكرة «إسرائيل الكبرى».

نتنياهو وإحياء الحلم التوراتي
في مقابلة أجراها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مع قناة «i24» العبرية، بتاريخ 12 آب الجاري، كشف نتنياهو بوضوح عن عمق ارتباطه بالفكر الصهيوني التوسعي عندما وصف نفسه بأنه في «مهمة تاريخية وروحية»، معتبراً أن دوره يتجاوز كونه مسؤولاً سياسياً ليحمل إرث أجيال كاملة من اليهود الذين حلموا بعودة كاملة إلى ما يُسمّى «أرض إسرائيل».

أوضح نتنياهو أن رؤيته تستند إلى ما يُعرف بـ«إسرائيل الكبرى»، وهو المفهوم الذي تعزز بعد حرب حزيران/يونيو 1967 حين توسعت إسرائيل واحتلت مساحات شاسعة من الأراضي العربية. وتشمل هذه الرؤية، وفق المنظور الإسرائيلي، الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى جانب أجزاء من الأردن ولبنان وسوريا وشبه جزيرة سيناء المصرية، في تجسيد واضح لفكرة التوسع التي تشكل حجر الأساس في الأيديولوجيا الصهيونية.

وعندما سُئل نتنياهو عمّا إذا كان يعتبر نفسه في «مهمة نيابة عن الشعب اليهودي»، أجاب بأنها «مهمة أجيال»، موضحاً أن مشروعه السياسي ليس منفصلاً عن المشروع التاريخي الذي بدأه آباء الصهيونية الأوائل منذ أواخر القرن التاسع عشر. بالنسبة إليه، يمثّل هذا المشروع استكمالاً لرحلة أيديولوجية طويلة تقوم على فكرة أن اليهود عبر التاريخ «حلموا بالعودة» إلى هذه الأرض، وأن هذا الحلم بات اليوم في متناول اليد بفعل القوة العسكرية والسيطرة السياسية التي حققتها إسرائيل.

تعكس هذه التصريحات توجّهاً واضحاً نحو إحياء الحلم التوراتي القديم ضمن سياق سياسي معاصر، حيث يلتقي البعد الديني مع الأطماع الجيوسياسية. فنتنياهو يربط بين النصوص التوراتية التي تحدّد حدود «أرض الميعاد» وبين الواقع الإستراتيجي الذي تسعى إسرائيل إلى فرضه على الأرض. وهو بذلك يقدّم نفسه باعتباره امتداداً لأجيال من الزعماء اليهود الذين حملوا راية المشروع الصهيوني، مستنداً إلى سردية دينية تبرر سياسات التوسّع وتبرر ضم الأراضي العربية تحت غطاء «تحقيق الوعد الإلهي».

* مؤرخ فلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى