قليلا من الفلسفة…
استفهامٌ وجودي في عصر التخصصات المتشظية… التطور المشترك للغة والدماغ.
الأنواع الرمزية
التطور المشترك للغة والدماغ
للكاتب تيرنس دبليو ديكون
♣︎♣︎ المقدمة:
في عالمٍ تُحاصرُه الإجاباتُ الجاهزةُ والأطرُ النظريَّةُ المغلقة، يُقدِّم الكتاب جرعةً فكريَّةً نادرةً ترفضُ الانحصارَ داخل حدودِ تخصصٍ بعينه. ليس هذا العملُ مجردَ دراسةٍ عن أصل اللغة أو تطور الدماغ، بل هو “استفهامٌ وجودي” يُعيدُ تشكيلَ السؤالِ المركزيِّ الذي طالما حيَّر الفلاسفةَ والعلماءَ على حدٍّ سواء: ما الذي يجعلُ الإنسانَ إنسانًا؟ وكيف تحوَّلَ كائنٌ بيولوجيٌّ عاديٌ إلى صانعِ رموزٍ قادرٍ على تلقى واختراعِ الديانات، وبناءِ الحضارات، وحتى تشريحِ ذاته عبرَ اللغة؟
الكتابُ ينطلقُ من فرضيةٍ ثوريةٍ تُقلبُ المنظورَ التقليديَّ للعلاقةِ بين اللغةِ والدماغ: فبدلًا من اعتبارِ اللغةِ منتجًا ثانويًّا لتعقيدِ الدماغِ البشري، يرى ديكون أن “اللغةَ نفسَها كانت محركًا رئيسيًّا لتطور الدماغ”، في عمليةٍ تبادليةٍ يسميها “التطور المشترك” (Coevolution). هنا، لا يعودُ الدماغُ مجردَ وعاءٍ بيولوجيٍّ يحتوي اللغة، بل يصبحُ نتاجًا لصراعٍ طويلٍ مع الرموزِ التي اخترعها. هذا التحوُّلُ الجذريُّ في الفهمِ لا يكتفي بنقدِ النظرياتِ السائدة (كالنحو الكوني لتشومسكي أو النموذج الحسابي للعقل)، بل يفتحُ بوابةً لفهمٍ جديدٍ لطبيعةِ الوعيِ والإرادةِ الحرةِ والهويةِ الإنسانية.
لكنَّ ديكون لا يبني أطروحته على التأملاتِ الفلسفيةِ فحسب؛ بل يغوصُ في تفاصيلَ مُعقدةٍ من علمِ الأعصابِ التطوري، والسيميوطيقا، والأنثروبولوجيا الثقافية، ليُظهرَ كيف أن “الرمزَ” (Symbol) – بوصفه نظامًا اعتباطيًّا للدلالةِ – فرضَ تحديّاتٍ غيرَ مسبوقةٍ على الدماغِ البشري، مما استدعى إعادةَ تشكيلِ دوائرهِ العصبيةِ لتمكينِ التكاملِ بين الإدراكِ الحسيِّ والتفكيرِ المجرد. فالقدرةُ على ربطِ كلمةٍ مثل “نار” بفكرةِ الخطرِ – دون وجودِ نارٍ حقيقيةٍ – تطلَّبتْ نوعًا من “التضحيةِ البيولوجية”: تضحيةٍ بالكفاءةِ الحسيةِ المباشرةِ لصالحِ كفاءةٍ رمزيةٍ أعلى، عمليةٌ يشبِّهها ديكون بـ”الصفقةِ الفاوستية” التي حوَّلتِ الإنسانَ إلى سجينٍ لِعالمِ الرموزِ الذي صنعَه بنفسه.
في هذا السياق، يتحولُ الكتابُ إلى سرديةٍ دراميةٍ عن صراعِ الإنسانِ مع ذاتِه: كائنٌ وُلدَ من رحمِ الطبيعة، لكنه تمردَ عليها بواسطةِ الرمز، فخلقَ واقعًا موازيًا من المعاني المُتفقِ عليها، واقعًا يسمحُ له بنقلِ المعرفةِ عبرَ الأجيال، لكنه يجعله أيضًا عُرضةً لأوهامِ الجماعاتِ والأيديولوجيات. هكذا، يصبحُ تاريخُ اللغةِ – لدى ديكون – مرآةً لتاريخِ الدماغِ، وكلاهما معًا مرآةٌ لتاريخِ الإنسانِ ككائنٍ غريبٍ، يعيشُ في فجوةٍ وجوديةٍ بين عالمِ المادةِ وعالمِ الدلالة.
المقدمةُ هنا ليست مدخلًا تقليديًّا، بل هي “رحلةٌ استكشافيةٌ إلى أعماقِ السؤالِ الإنساني”، تُسلِّطُ الضوءَ على كيفيةِ تفكيكِ ديكون للثنائياتِ الزائفةِ (طبيعة vs. ثقافة، عقل vs. جسد، بيولوجيا vs. لغة)، وتُنبئُ القارئَ بأنه مقبلٌ على قراءةٍ ليست عن الماضي فحسب، بل عن المستقبلِ أيضًا: مستقبلٍ قد تكشفُ فيه علومُ الأعصابِ النقابَ عن أسرارٍ أكثرَ إثارةً للجدلِ حولَ حدودِ الحريةِ والإرادةِ في عالمٍ تُسيطرُ عليه الرموزُ التي نصنعُها – والتي تصنعُنا بدورِها.
♣︎♣︎ تلخيصٌ أدبيٌّ أكاديمي للكتاب:
رحلةٌ إلى أعماق لغزِ الإنسان
في زاويةٍ مظلمةٍ من تاريخنا التطوري، حيث تتدلى أسئلةٌ مثل خيوطِ عنكبوتٍ لم يُكتشف عشها بعد، يُطلّ علينا عالم الأنثروبولوجيا العصبية “تيرنس دبليو ديكون” بكتابٍ يقلبُ الطاولةَ على كلِّ ما اعتقدناه عن اللغة والعقل. الكتاب ليس مجردَ دراسةٍ أكاديميةٍ جافة، بل هو رحلةٌ استقصائيةٌ تشبهُ مغامرةَ “إنديانا جونز” في أعماقِ كهوفِ الدماغ البشري، بحثًا عن الكنز المفقود: “أصل الرمز.
البدايةُ كانت مع لغزٍ محيّر: لماذا يمتلكُ الإنسانُ — وحده دون كلِّ الكائنات — قدرةً على خلقِ لغةٍ معقدةٍ قائمةٍ على الرموز المجردة؟ هل كانت طفرةٌ جينيةٌ عمياء؟ أم هي هبةٌ إلهيةٌ كما ادعى البعض؟ ديكون يرفضُ هذه السردياتِ البسيطة، ويبدأ رحلتهُ بفرضيةٍ ثورية: “اللغةُ لم تُخلقْ بواسطة الدماغ، بل الدماغُ هو من تَشكّلَ بواسطة اللغة. إنها قصةُ تزاوجٍ غريبٍ بين عضوٍ بيولوجيٍ (الدماغ) وفكرةٍ ثقافيةٍ (الرمز)، تزاوجٌ استمرَّ ملايين السنين، وأنتجَ كائنًا لا يشبهُ أيَّ شيءٍ سبقه.
لكن كيف حدث هذا؟ هنا يأخذنا ديكون في جولةٍ عبر حقولٍ متنافرة: من أحافيرِ الهومينيدات في إفريقيا، إلى مختبراتِ علم الأعصاب حيث تُراقَبُ النشاطاتُ الكهربائيةُ للخلايا العصبية، إلى غاباتِ الأمازون حيث تُحلَّلُ لغاتُ قبائلَ منعزلة. السرُّ — كما يكشف — ليس في حجمِ الدماغِ وحده (فالحوتُ دماغُه أكبرُ من دماغنا)، ولا في جينٍ سحريٍ (كما ادعى تشومسكي)، بل في “تغيراتٍ جوهريةٍ في طريقة اتصال الخلايا العصبية”، تغيراتٌ سمحت للبشر بفكِّ شفرةِ العلاقةِ بين الأشياءِ ورموزها.
الرمزُ — في عرف ديكون — ليس مجردَ إشارةٍ كتلك التي يستخدمها الغرابُ لتحذير رفاقه من خطرٍ قريب (إشارةٌ مرتبطةٌ بسياقٍ مباشر)، ولا أيقونةً كالرسومِ على جدرانِ الكهوف (تشبهُ ما تمثله)، بل هو “اتفاقيةٌ ثقافيةٌ عمياء” تربطُ بين صوتٍ اعتباطيٍّ (كلمة “كلب”) وفكرةٍ مجردةٍ (حيوانٍ ذي أربعِ أرجل). هذه القفزةُ من الملموسِ إلى المجهولِ تطلَّبتْ دماغًا قادرًا على خلقِ طبقاتٍ من الدلالات، دماغًا يستطيعُ أن يربطَ بين كلمةٍ تُسمعُ وصورةٍ ذهنيةٍ لا وجودَ لها في الواقع.
ولكن كيف تطور هذا الدماغُ الرمزي؟ الإجابةُ تكمن في مفهومٍ يُسميه ديكون “التطور المشترك” (Coevolution). فكما أن طائرَ الطنان تطورَ مع الأزهارِ التي يتغذى عليها، تطورَ الدماغُ البشري مع اللغةِ التي اخترعها. الضغطُ التطوريُّ هنا لم يكن من أجل البقاءِ في الغاباتِ فقط، بل من أجل البقاءِ في “غاباتِ الرموز” التي بنتها المجتمعاتُ البشرية. كلما تعقَّدتِ اللغةُ، اضطرَّ الدماغُ إلى تطويرِ دوائرَ عصبيةٍ جديدةٍ لمعالجتها، وكلما تطورَ الدماغُ، سمحَ بخلقِ رموزٍ أكثرَ تعقيدًا. إنها حلقةٌ مفرغةٌ من التحدي والاستجابة، أوجدتْ كائنًا يفكرُ بطريقةٍ لا يستطيعُ حتى أقربُ أسلافِه من الرئيسياتِ فهمها.
لكن القصةَ ليست بهذه البساطة. ففي فصلٍ مثيرٍ للقشعريرة، يكشفُ ديكون أن الدماغَ البشريَّ — رغم تفوقه — يحملُ في بنيتهِ آثارَ صراعٍ مريرٍ بين القديمِ والجديد. فالقشرةُ الدماغيةُ الحديثة (Neocortex)، مسؤولةٌ عن التفكيرِ المجردِ واللغة، تُجاورُ مناطقَ بدائيةً مسؤولةً عن الغرائزِ والعواطف. هذا التعايشُ غيرُ المستقرِّ هو ما يجعلُ اللغةَ البشريةَ مليئةً بالتناقضات: فنحنُ نستخدمُ الرموزَ لبناءِ حضارات، لكننا أيضًا نستخدمها لخلقِ الأوهامِ والحروب. هنا يطرحُ ديكون سؤالًا مزلزلًا: هل الرمزُ أداةُ تحريرٍ أم سجنٌ جديد؟
♧ الكتابُ لا يكتفي بالتحليلِ البيولوجي، بل يغوصُ في دهاليزِ الفلسفةِ وعلمِ الأساطير. فالقدرةُ على استخدامِ الرموزِ — بحسب ديكون — هي ما جعلَ الإنسانَ يؤمنُ بالآلهةِ، ويخترعُ القصصَ، ويخافُ من الموت. اللغةُ هنا ليست وسيلةَ تواصلٍ فحسب، بل هي “نافذةٌ على الوعي الإنساني”. لكن النافذةَ نفسَها تحملُ لغزًا: كيف لشيءٍ ماديٍ (اهتزازاتٌ صوتيةٌ أو حروفٌ على ورق) أن ينقلَ أفكارًا غيرَ ماديةٍ كالحبِّ أو العدالة؟ ديكون يرى أن هذا التناقضَ هو جوهرُ “المعضلةِ الإنسانية”: فنحنُ كائناتٌ ماديةٌ تحلمُ بمفاهيمَ غيرِ مادية.
أما المفاجأةُ الكبرى في الكتاب فهي نقدُ ديكون اللاذعُ للنظرياتِ التي تتعاملُ مع اللغةِ كبرنامجٍ جاهزٍ في الدماغ. فبدلًا من أن تكونَ اللغةُ مُشفَّرةً في جيناتنا (كما في نظريةِ تشومسكي عن “النحو الكوني”)، يرى أنها وليدةُ تفاعلٍ معقدٍ بين الدماغِ والثقافةِ عبر الزمن. هذا التفاعلُ تركَ آثارًا في بيولوجيتنا، لكنه لم يخلقْ “غريزةَ لغةٍ” بالمعنى الدارج. بل إن تعلمَ اللغةِ — خاصةً في مرحلةِ الطفولة — هو عمليةٌ أشبهُ بتركيبِ أحجيةٍ كونية، حيث يُعيدُ الدماغُ تنظيمَ نفسه باستمرارٍ لفكِّ شفرةِ الرموزِ المحيطة به.
لكن كلَّ مغامرةٍ لها مخاطرُها. ففي خضمِّ سردِه المثير، يتركُ ديكون بعضَ الأسئلةِ معلقةً كأشباحٍ تطاردُ القارئ: إذا كانتِ اللغةُ قد شكَّلتْ دماغَنا، فهل نحنُ حقًّا “أحرارٌ” في التفكيرِ خارجَ حدودِ رموزنا؟ وهل يمكنُ لكائنٍ آخرَ — غيرِ الإنسان — أن يطورَ رمزيةً مماثلةً لو توفرتْ له الظروف؟ الأجوبةُ ليست جاهزة، لكن ديكون يلمحُ إلى أن البشريةَ ربما تكونُ قد دخلتْ في فخٍّ تطوريٍّ: فالقدرةُ على خلقِ الرموزِ منحتها قوةً هائلة، لكنها أيضًا جعلتها عبدةً لِعالمٍ من المعاني قد لا تكونُ حقيقية.
♧ كان كالانفجارِ العظيم: فكرةٌ تُعيدُ تعريفَ الإنسان. ديكون لا يرى أننا “كائناتٌ عاقلة” فحسب، بل “كائناتٌ رمزية” (The Symbolic Species). اللغةُ ليست مجردَ أداةٍ اخترعناها، بل هي جزءٌ من بيولوجيتنا، مثلما الجناحُ جزءٌ من بيولوجيا الطائر. لكن هذا الجناحَ الرمزيَّ يحملُ ثمنًا باهظًا: فالقدرةُ على تخيّلِ المستقبلِ جعلتنا نخشى الموت، وقدرتُنا على اختراعِ الآلهةِ جعلتنا نعيشُ في صراعٍ أبديٍ بين الإيمانِ والشك.
الكتابُ — في نهايةِ المطاف — أشبهُ بمرآةٍ كشفتْ للإنسانِ وجهًا لم يره من قبل: وجهُ كائنٍ هشٍّ، بنى سُلطتَه على رمالِ الرموزِ المتحركة، لكنه مع ذلك الكائنُ الوحيدُ الذي يستطيعُ أن يسأل: “مَن أنا؟”.
والى روايات وكتب أخرى قريبا ان شاء الله
الروائى خالد حســــــين
إلى هنا انتهى التلخيص…. شكرا جزيلا
لمن أراد الاستزادة . اليكم المزيد …
♣︎♣︎ السياق التاريخي والثقافي للكتاب.
التطور المشترك للغة والدماغ”
١. الخلفية الفكرية: صراع الثنائيات في القرن العشرين
ظهر كتاب ديكون عام 1997 في ذروة الجدل بين الماديين الاختزاليين (الذين يرون العقل نتاجًا بيولوجيًا صرفًا) والمثاليين الثقافيين (الذين يعتبرون اللغة نظامًا مستقلًا عن البيولوجيا). كان هذا الجدل امتدادًا لصراع تاريخي بدأ مع ديكارت (العقل مقابل الجسد) ووصل إلى ذروته في أعمال نعوم تشومسكي حول “النحو الكوني”، التي جعلت اللغة غريزة فطرية مشفرة في الجينات. لكن ديكون – كعالم أنثروبولوجيا عصبية – ثار على الثنائية نفسها، مستلهمًا إرثًا مختلفًا: السيميوطيقا التطورية، والأنثروبولوجيا الفلسفية الألمانية (مثل ماكس شيلر)، وحتى الطقوس السحرية في المجتمعات البدائية التي درسها مالينوفسكي.
٢. جذور الفكرة: من نقوش الكهوف إلى ثورة النيوكورتكس
يعود السر الخفي في كتاب ديكون إلى سؤال قديم ظهر مع أول نقوش بشرية في كهف شوفيه بفرنسا (32,000 ق.م): كيف انتقل الإنسان من إشارات التحذير (كصرخات القرود) إلى رموز مجردة تصف الغياب (ككلمة “موت”)؟ هنا، يستند ديكون إلى اكتشافات أثرية غامضة قلما تناقش، مثل:
– رقيم قبرص الطيني (2,500 ق.م): يظهر تحولًا من الرموز المحسوسة (كصور الثيران) إلى الرموز الصوتية المجردة.
– طقوس الدفن في جبل الكرمل: حيث وجدت هياكل بشرية مع حلي منقوشة برموز لا تفك شفرتها حتى الآن، مما يشير إلى بدايات اللغة الطقسية.
– لغات الصفير في جزر الكناري (Silbo Gomero): التي تظهر كيف يعيد الدماغ البشري تشكيل نفسه ليتعامل مع أنظمة إشارات غير مألوفة.
٣. الثورة الخفية: الدماغ الذي أعاد اختراع نفسه
يكشف ديكون عن تحول جذري في تاريخ التطور البشري مرتبط بالقشرة الجديدة (Neocortex)، لكن التحليل الأعمق يظهر تأثيرات ثقافية مدهشة:
– أسطورة بروميثيوس في الميثولوجيا الإغريقية: التي تجسد سرقة “النار” (الرمز الأول للثقافة البشرية) من الآلهة، وكأنها إشارة إلى أن التمرد على الطبيعة بدأ مع الرمز.
– ثقافة التولتك في أمريكا الوسطى: حيث اعتقدوا أن اللغة هبة من كيتزالكواتل، الإله الذي علم البشر الكلام عبر “الحبل السري الكوني”.
– النقوش الثمودية في شمال الجزيرة العربية: التي تظهر انتقالًا من الكتابة التصويرية إلى الأبجدية المجردة، كتجل لتطور الدماغ الرمزي.
٤. المهمشون في تاريخ اللغة: أصوات من خارج المركز
يلمح ديكون – دون تصريح – إلى أن تاريخ اللغة المكتوب من وجهة نظر غربية قد تجاهل أنظمة رمزية فريدة:
– لغة الإشارة عند قبائل البانتو: التي تستخدم رموزًا جسدية معقدة لوصف مفاهيم مجردة مثل “العدالة القبلية”.
– أنظمة العد في جزر بابوا غينيا الجديدة: حيث تستخدم أجزاء الجسم كرموز رياضية، مما يظهر تفاعل الدماغ مع الرموز الحسية.
– الرموز الصوفية في المخطوطات الإثيوبية (كتاب “الكبره نگست”): التي تدمج بين اللغة والسحر كتمثيل لوظيفة الرمز في ربط العالمين المادي والميتافيزيقي.
٥. التحدي الأكبر: عندما تجاوز ديكون داروين
في قلب الكتاب نقد خفي للنموذج الدارويني التقليدي، حيث يرى ديكون أن الانتخاب الطبيعي وحده لا يفسر تعقيد الرمزية، بل يجب إدخال مفهوم منسي من الفلسفة العربية الإسلامية: “الغائية التشاركية” (التي ناقشها ابن رشد في “تهافت التهافت”)، أي أن الكائنات تطور سمات جديدة استجابة لأهداف متخيلة، وليس فقط لضغوط بيئية.
٦. الإرث المضمر: الرمز كسجن وجودي
بين سطور الكتاب تقرأ فكرة مأساوية مستوحاة من الفلسفة الوجودية والأساطير البابلية (كملحمة جلجامش): أن الإنسان دفع ثمن الرمزية غاليًا؛ فالقدرة على تجريد العالم جعلته يعيش في انفصام بين جسد مادي ووعي يبحث عن معنى. هذه الفكرة تعيدنا إلى نقوش مدينة أوروك السومرية (3,400 ق.م)، حيث ظهرت أولى الكتابات كوسيلة لحفظ الضرائب، لكنها تحولت لاحقًا إلى سرد الملاحم عن الخلود!
٧. ما بعد الكتاب: كيف غير ديكون مصير السيميوطيقا؟
بعد ربع قرن من نشر الكتاب، أصبحت أفكار ديكون جسرًا بين:
– النقوش الليبية-البونيقية في شمال إفريقيا: التي تظهر تزاوجًا بين الرموز الفينيقية والأمازيغية.
– دراسات الوعي في البوذية التبتية: حيث تستخدم المانترات (الترانيم الصوتية) كأدوات لإعادة تشكيل الدماغ.
– نظريات الذكاء الاصطناعي الحديثة: التي تبحث عن إمكانية محاكاة الرمزية البشرية في آلات تفتقر إلى “التجسيد البيولوجي”.
هذا السياق التاريخي يظهر أن كتاب ديكون ليس مجرد دراسة علمية، بل هو سردية كونية عن الإنسان ككائن يدفن ذاته تحت ركام الرموز التي اخترعها.
♣︎♣︎ ما بين السطور:
الرسائل الخفية في كتاب “الإنسان، اللغة، الرمز”
على الرغم من أن تيرنس ديكون يقدّم في كتابه تحليلًا علميًّا صارمًا لعلاقة الدماغ باللغة، إلا أن ثمة رسائلَ فلسفيةً وعاطفيةً تطفو بين السطور، كأنّها صرخةٌ صامتةٌ تُحذّرُ من ثمنِ التميُّز البشري. فما لم يصرّح به ديكون بشكلٍ مباشر، لكنه يُلمّح إليه عبر الفصول، هو أن “الإنسان قد يكون أسيرَ الرموز التي اخترعها”، وأن هذه الرموز — رغم كونها مصدرَ قوّته — تحوّلت إلى قفصٍ وجوديٍ يُعيد إنتاج معاناته.
أولًا: يبدو أن ديكون — خلفَ ادعائه الحياد العلمي — يُشير إلى أن “الرمزية ليست ترفًا ثقافيًّا، بل هي مرضٌ وجودي:. فالقدرةُ على تجريد العالم إلى رموزٍ سمحت للإنسان بتجاوز حدودِ الواقع المادي، لكنها أيضًا فصلته عن “الحاضرِ الحي” الذي تعيشه الكائنات الأخرى. بينما يلهو الدلفينُ في الماءِ دون أن يُقلقه معنى الموت، يُجبر الإنسانُ — بفضلِ رموزه — على العيشِ في زمنٍ متخيَّل: ماضٍ من الذكرياتِ المؤلمة، ومستقبلٍ من المخاوفِ الافتراضية. هذا الانزياحُ الزمني — الذي لم يُذكر صراحةً — هو ما يجعلُ الإنسانَ الكائنَ الوحيدَ الذي يعاني من القلقِ الوجودي، وكأنّ الرمزَ هو السيفُ الذي قطّعَ نسيجَ البراءةِ البيولوجية.
ثانيًا: هناك نقدٌ مبطّنٌ لفكرةِ “التقدُّم” كقيمةٍ مطلقة. فالتطورُ المشتركُ بين الدماغِ واللغة — كما يرسمه ديكون — ليس سرديةً انتصاريةً عن تفوُّقِ البشر، بل هو قصةُ مأساويةٍ عن كائنٍ اضطرَّ إلى تعقيدِ دماغه — وتحملِ آلامِ الولادةِ المتكررة (نتيجةَ تضخمِ الجمجمة) — فقط ليُبقي نفسَه على قيدِ الحياةِ في مواجهةِ تعقيداتٍ هو من صنعها. الرمزُ هنا أشبهُ بفيروسٍ اجتاحَ الدماغَ البشري، فحوّله إلى مضيفٍ مُكرَهٍ على خدمةِ نظامٍ من المعاني قد لا يكونُ له معنى خارجَ ذاته.
ثالثًا: بين السطور، يبدو أن ديكون يُعيدُ تعريفَ “الحرية الإنسانية” بطريقةٍ مُقلقة. فإذا كانتِ اللغةُ قد شكّلتْ بنيةَ الدماغِ عبرَ التطور، فهل نحنُ أحرارٌ حقًّا في التفكير خارجَ إطارِ الرموزِ التي ورثناها؟ الجوابُ الضمني هو أن الإنسانَ يشبهُ لاعبَ شطرنجٍ مُحاصرًا بقواعدَ اللعبة: فحتى قراراتُه “الحرّة” محكومةٌ بنظامٍ رمزيٍ لم يخترعه. هذا يطرحُ سؤالًا جريئًا: هل الوعيُ البشريُّ — الذي نتباهى به — مجردُ وهمٍ ناتجٍ عن حوارِ الرموزِ داخلَ دماغٍ لا يعرفُ إلا لغةً واحدة؟
رابعًا: هناك إيحاءٌ خفيٌّ بأن “الرمزيةَ البشريةَ قد تكونُ تجربةً فاشلةً للطبيعة”. فبينما نجحَتْ الكائناتُ الأخرى في التكيّفِ مع بيئاتها عبرَ ملايين السنين، وضعَ الإنسانُ كلَّ رهاناتِه على الرمز، مما جعله كائنًا هشًّا يعتمدُ على أنظمةٍ ثقافيةٍ معرّضةٍ للانهيار. الحضاراتُ تزول، اللغاتُ تموت، والقيمُ تتغيّر — لكنّ غريزةَ الرمزِ تبقى، كندبةٍ في جينومِنا تُذكّرنا بأننا خُلقنا لِنُصابَ بلعنةِ السؤالِ الدائم: “لماذا؟”.
أخيرًا: يختبئُ تحتَ النصِّ حنينٌ مُفارقٌ إلى “البدائيةِ المفقودة”. ففي حديثه عن تطورِ القشرةِ الدماغية، يصف ديكون — دون قصدٍ ربما — كيف دمّرتِ الرمزيةُ التوازنَ القديمَ بين العقلِ والغريزة. الإنسانُ الحديثُ — بعقلهِ الرمزي — لم يعدْ قادرًا على العيشِ في “الآنِ الأبدي” الذي تعيشه الحيوانات، بل صارَ يعاني من انفصامٍ بين جسدٍ ماديٍ مُلتصقٍ بالأرض، ووعيٍ رمزيٍ يحلّقُ في فراغِ المعاني.
☆☆☆ هذه الرسائلُ الخفيةُ — التي قد لا يتفقُ معها ديكون نفسه لو صرّح بها — هي ما يجعلُ الكتابَ أشبهَ بمرثيةٍ علميةٍ للإنسان: ذلك الكائنُ العجيبُ الذي حوّلَ نفسَه من جزءٍ من الطبيعةِ إلى ساردٍ لقصةٍ لا يعرفُ نهايتها.
♣︎♣︎ الخاتمة:
الإنسانُ في مفترقِ الطرقِ بين الرمزِ والمصير.
يخرجُ القارئُ من الكتابِ وهو يحملُ بين يديهِ لغزًا وجوديًّا مُركَّبًا: لقد نجحَ الكاتبُ في تفكيكِ الثنائيةِ التقليديةِ بين البيولوجيا والثقافة، لكنه في الوقتِ نفسِه كشفَ عن هوةٍ أعمقَ بين الإنسانِ وذاتِه. فالنموذجُ الذي يقدّمه ديكون — القائمُ على التطورِ المشتركِ للدماغِ واللغة — ليس مجردَ تفسيرٍ علميٍّ لظاهرةِ اللغة، بل هو “مرآةٌ تكشفُ التناقضَ الجوهريَّ في التجربةِ الإنسانية”: فنحنُ كائناتٌ ماديةٌ صاغتْ رموزًا حرّرتها من سجنِ المادة، لكنّ هذه الرموزَ نفسَها حوّلتها إلى سجناءٍ في عالمٍ من المعاني قد لا يكونُ لهُ وجودٌ خارجَ أدمغتِها.
♧ الكتابُ — في جوهرِه — يدعونا إلى إعادةِ النظرِ في تعريفِ الإنسانِ ذاته. فإذا كانتِ الرمزيةُ — كما يجادلُ ديكون — هي السمةُ التي تفصلُنا جذريًّا عن باقي الكائنات، فإنها أيضًا تُجبرنا على مواجهةِ سؤالٍ مُقلق: هل نحنُ سادةُ الرموزِ أم عبيدُها؟ الإجابةُ التي تطفو من بين السطورِ ليست مُطمئنةً؛ فالتطورُ المشتركُ — بكلِّ تعقيداتِه — يظهرُ كـ”صفقةٍ فاوستيةٍ”، حيثُ حصلَ الإنسانُ على قوةِ الخلقِ الرمزيِّ، لكنه فقدَ في المقابلِ براءةَ الكائنِ الذي يعيشُ في تناغمٍ مع بيئتِه. اللغةُ — بهذا المعنى — ليست أداةَ تحريرٍ فحسب، بل هي أيضًا أداةُ اغترابٍ عن العالمِ الطبيعي.
لكنّ الأهمَّ من ذلك، أن ديكون يتركُنا مع إرثٍ من الأسئلةِ التي تتحدى حدودَ التخصصاتِ الأكاديمية: كيف يمكنُ لعلمِ الأعصابِ أن يُفسرَ ظاهرةَ الوعيِ دونَ الوقوعِ في فخِّ الاختزالِ المادي؟ وهل يمكنُ للأنثروبولوجيا أن تفهمَ الثقافةَ البشريةَ دونَ إدراكِ أنها نتاجٌ لعملياتٍ عصبيةٍ تطورية؟ هذه الأسئلةُ — التي تتدفّقُ كأنهارٍ تحتَ سطحِ الكتاب — تُذكّرنا بأنّ فهمَ الإنسانِ يتطلّبُ جسرًا بين العلومِ والفلسفة، بين المختبرِ والخيال.
♧ يُقدّمُ الكتابُ تحذيرًا ضمنيًّا: فالقدرةُ على خلقِ الرموزِ — التي مكّنتْنا من بناءِ الحضاراتِ — قد تكونُ السلاحَ ذا الحدينِ الذي يُهددُ وجودَنا. فكما اخترعَ الإنسانُ لغةً لوصفِ العالم، اخترعَ أيضًا رموزًا لخلقِ عوالمَ وهميةٍ (كالأيديولوجياتِ المتطرفةِ أو اللاواقعِ الرقمي) تُعيدُ تشكيلَ وعيِه بطريقةٍ قد تُفقدُه الاتصالَ بالواقعِ ذاته. هنا، يصبحُ السؤالُ الأكثرُ إلحاحًا: هل سنستطيعُ — كجنسٍ بشري — توظيفَ رمزيتِنا لإنقاذِ أنفسِنا من الهُوّةِ التي حفرناها بأنفسِنا؟
☆☆☆ ختامًا، يظلُّ كتابُ ديكون “نبوءةً علميةً مفتوحةَ النهاية”، تُلقي بظلالِها على مصيرِ الإنسانِ في عصرِ الذكاءِ الاصطناعيِ والواقعِ الافتراضي. ففي عالمٍ تُسيطرُ عليه الرموزُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، يُصبحُ من واجبِنا أن نتذكّرَ دائمًا أننا — رغمَ كلِّ تعقيداتِنا — لسنا إلّا كائناتٍ هشّةٍ، تحملُ في دماغِها سِرَّ قوتِها، وفي الوقتِ نفسِه، بذرةَ فنائِها.
♣︎♣︎ نبذة عن تيرنس ويليام ديكون – سيرة أكاديمية.
♧ المجال الأكاديمي: أنثروبولوجيا بيولوجية، علوم أعصاب تطورية، سيميوطيقا، فلسفة العقل
١. النشأة والتعليم: بذور عقل عابر للتخصصات
ولد تيرنس ديكون في الولايات المتحدة خلال منتصف القرن العشرين، في عائلة مهتمة بالعلوم الطبيعية. لم تنشر تفاصيل دقيقة عن طفولته، لكن مساره الأكاديمي يشير إلى تأثر مبكر بأسئلة وجودية حول أصل الإنسان وفلسفة البيولوجيا. في مرحلة الشباب، جمع بين الاهتمام بالعلوم الدقيقة (كالكيمياء والفيزياء) والعلوم الإنسانية (كالفلسفة والأنثروبولوجيا)، وهو تناقض ظاهري سيطبع لاحقًا أسلوب تفكيره الثوري.
التحق ديكون بجامعة هارفارد العريقة، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا البيولوجية عام 1972، ثم واصل دراساته العليا في نفس الجامعة، لينال الدكتوراه عام 1984 تحت إشراف عالم الأنثروبولوجيا الشهير إرفن ديفور (Irven DeVore). كانت أطروحته بعنوان “التفاعل بين التطور البيولوجي والثقافي في أصل اللغة”، والتي شكلت نواة لأفكاره اللاحقة حول التطور المشترك.
٢. المسار الأكاديمي: جسر بين العلوم والإنسانيات
شغل ديكون مناصب أكاديمية في عدد من الجامعات المرموقة:
– أستاذ الأنثروبولوجيا البيولوجية بجامعة هارفارد (1984-1992).
– رئيس قسم الأنثروبولوجيا بجامعة بوسطن (1992-2002).
– أستاذ الأنثروبولوجيا وعلوم الأعصاب بجامعة كاليفورنيا، بيركلي (منذ 2002 حتى الآن).
في بيركلي، أسهم في تأسيس برنامج العلوم العصبية والسلوكية، الذي يعد من أوائل البرامج الأكاديمية التي دمجت بين البيولوجيا العصبية والفلسفة.
٣. التحديات الفكرية: صراع العابر للتخصصات
واجه ديكون انتقادات شديدة من الأوساط الأكاديمية التقليدية، لـ:
1. رفضه الحدود بين التخصصات: إذ اعتبرته المدرسة الأنثروبولوجية “متهورًا” لدمجه مفاهيم من السيميوطيقا (علم العلامات) مع علم الأعصاب.
2. نقده لنظريات نعوم تشومسكي: خاصة فكرة “النحو الكوني” (Universal Grammar)، التي رأى أنها تهمل دور التطور الثقافي في تشكيل اللغة.
3. تحدييه للمادية الاختزالية: عبر إحيائه مفاهيم “الغائية” (Teleology) في البيولوجيا، والتي تعتبر تابوًا في الأوساط العلمية منذ داروين.
٤. الإسهامات العلمية: أعمال غيرت خريطة المعرفة
أ. الكتابات المؤثرة:
1. “الأنواع الرمزية: التطور المشترك للغة والدماغ” .
2. “الطبيعة غير المكتملة: كيف ظهر العقل من المادة”
(Incomplete Nature: How Mind Emerged from Matter – 2012)
– يعيد فيه تعريف مفاهيم مثل “الغائية” و”الغياب” كقوى فاعلة في التطور.
3. “هومونكولس: كيف خدعتنا اللغة عن أصل الوعي”
(Homunculus: How Language Deceived Us About the Origin of Consciousness – 2023)
– أحدث أعماله، يناقش فيه علاقة اللغة بتشكيل الوهم الذاتي للإنسان.
ب. المفاهيم الثورية:
– التطور المشترك (Coevolution): تفاعل الدماغ واللغة في تشكيل بعضهما.
– الغائية التشاركية (Shared Teleology): دور الأهداف المتخيلة في توجيه التطور.
– الظهورية السيميوطيقية (Semiotic Emergence): نشوء المعنى من تفاعل العلامات.
٥. الإرث الفكري: عالم أعاد تعريف الإنسان
يعتبر ديكون أحد أبرز من تحدوا الثنائية الديكارتية (العقل vs. الجسد)، عبر تقديم نموذج تكاملي يربط بين التطور البيولوجي والثقافي. اليوم، تدرس أعماله في أقسام الفلسفة وعلوم الأعصاب والأنثروبولوجيا، كمثال على التفكير الجريء الذي يتخطى حواجز التخصصات.
٦. مقولات تلخص فلسفته:
– “اللغة ليست أداةً اخترعها الدماغ، بل هي البيئة التي صاغت الدماغ البشري”.
– “نحن لسنا مجرد مستخدمين للرموز، بل نحن الرموز التي تستخدم نفسها”.
هذه السيرة تلخص رحلة عالم حول التحديات إلى فرص لإعادة اختراع الأسئلة الكبرى…
#الكاتب_الروائى_خالد_حسين
#الأنواع_الرمزية_تيرنس_دبليو_ديكون
#Novelist_Khaled_Hussein
#The_Symbolic_Species_Terrence_W_Deacon